ما يحدث من تطورات خاطفة في العراق بعد اعلان نتائج الانتخابات، يحكي قصة بلد تتحكم فيه فئة سياسية عاجزة عن إدارته، وفي نفس الوقت مصممة على البقاء في هذا العجز، فهو يمثل الوسط الأمثل لتحقيق طموحاتها الذاتية في المكاسب ومواقع السلطة. وقد شجعها على ذلك معظم شرائح الشعب العراقي الذي قرر الكثيرون فيه التنازل عن الإرادة والتمسك بالطاعة المقيدة الى هذا القائد وذاك، فيعطيهم الولاء المطلق، ويقنع بالجوع والمرض ونقص الخدمات.
لقد اكتشف قادة الكيانات بعد أشهر من العملية السياسية، أنهم لا يستطيعون بناء دولة، ولكن بمقدورهم بناء كياناتهم الشخصية على حسابها، وأن السبيل لذلك هو المال وحده، هذا العامل الذي يتحكم بالقرارات والمواقف والجماعات. وبذلك صارت العملية السياسية تتجه نحو هدف واحد هو محاولة كل طرف مشارك فيها أن يسرق ما يستطيع سرقته.
وأدرك القادة بغريزة التسابق وبعقلية المصلحة، أن الكفاءات هي التهديد الأول لمواقعهم، وعليه لابد من الاستعانة بذوي الشخصية الضعيفه والتفكير المحدود ومن يلهثون وراء الانتفاع الشخصي ، فهؤلاء يمكن الاعتماد عليهم والوثوق بهم، وسيكونون مخلصين للقائد، فهو يريد الاتباع للتفوق على منافسيه في معارك شخصية صرفة، والمعتاشون يريدون المنفعة الذاتية لأنفسهم، وهكذا تلاقى الطرفان في تشكيلة منسجمة تصنع كل كتلة من الكتل.
وفق هذا التفاهم السريع بين القادة وبين رجالهم الطامحين، برز أشخاص من الهامش الى الواجهة، فجندي الحماية يتحول الى محافظ بحركة واحدة. والمقاتل الذي لا يجيد إلا استخدام السلاح، ينتقل فجأة الى نائب في البرلمان، والشخص الذي كانت أعلى أمنياته أن يسافر بالطائرة ولو مره واحدة في عمره يصبح وزيراً بين ليله وضحاها . وهاربون كانوا يخشون ان تكشف ملفاتهم الاجرامية، يتحولون الى برلمانيين ومسؤولين بحمايات تحميهم من نظرائهم بالأمس، والأشخاص الذين كانت أسعد لحظات حياتهم عندما يُدعون الى وليمة في بيت شخصية معروفة، يتحولون الى مساعدين ومستشارين ومدراء عامون ومقربين وأعضاء قيادات في كيان سياسي يشارك في صناعة القرارات وتشكيل الحكومة. وسوف اقوم لاحقا
بنشر مقالات عن هذه النماذج المذكورة، وأفكر بنشرها ليبقى في ذاكره التاريخ لكي يتسنا لكل من يقرأها ان يذكرها الأجيال القادمة لتعرف مأساة هذا البلد.
وبمرور السنوات ومع كل انتخابات برلمانية تتفجر الطموحات عند المعتاشين، فقد صار بإمكان أي شخص أن ينال أي منصب، والمقياس ينحصر في قدرته على التقرب من القائد وكيفية إقناعه بأنه أفضل من غيره على السرقة، وأنه يمتلك مرونة في العمود الفقري على الانحناء حتى القدمين.
أدرك القادة أن حشود الأتباع تعشق تصديق الكذبة، وتجيد شطب الذاكرة، فراحوا يطلقون الشعارات الكبيرة، ثم تمادوا أكثر باطلاقها بعد أن وجدوا أن لا أحد يسألهم عن آليات التنفيذ وعن برنامج التخطيط وعن الفرق بين هذه الشعارات وبين سابقاتها.
ولمس القادة لمس اليد، أن كل جريمة مهما بلغت بشاعتها ومأساتها، فأن الاتباع سيتصدون لتبريرها. وأن أعظم الكوارث التي يصنعونها في البلد يمكن للأتباع تحملها والتلذذ بدموعها.
وعندما يدرك القادة ذلك، فانهم يتمادون في طموحاتهم، فيحثون الخطى لسرقة أكبر، من أجل تعزيز قواهم، ويسارعون الى الجلوس مع بعضهم البعض لمناقشة الحصص، فهم حين يجتمعون يضعون أمامهم خارطة دولة ثرية عليهم سرقتها عبر المناصب.